تمرد فاجنر بين الإنقلاب و المسرحية

في السابع والعشرين من حزيران من عام ٢٠٢٣ إستفاق سكان مدينة روستوف جنوب روسية على مسلحي الشركة العسكرية الروسية الخاصة فاجنر wagner  لصاحبها يفجيني بريجوجين ، و هي تحتل مراكز الجيش الروسي في المدينة الروسية الحدودية ، و قد دخلتها قوات فاجنر بسلاحها الثقيل و دباباتها من أوكرانيا حيث تعسكر هناك منذ إندلاع الحرب . 

و بعد عدة مناوشات دارت بين بريغوجين والقيادة الروسية و بالأخص وزير الدفاع سيرجي شويجو,و بالأخص عندما اتهم بريجوجين وزارة الدفاع  الروسية بأنها لم تعطيه الذخيرة الكافية أثناء القتال في باموت في أوكرانيا  ، وزاد  الوضع سوءا عند إتهام بريغوجين للقوات الجوية الروسية بقصف موقع متقدم لقوات فاجنر في أوكرانيا  بأمر مباشر من شويجو ، و هذا ما آخذه ذريعة لتفجير تحرك فاجنر المسلح  الذي وصل حتى التهديد باحتلال موسكو .



 و لا ريب أن تحرك فاجنر كان مفاحئ و صادما للكثيرين ،ولكن لماذا و ما هي أبعد هذا التحرك الذي وصفته موسكو بالإنقلاب و شبهه بوتين بالحرب الأهلية الروسية. و تزامن هذا التحرك من فاجنر مع النجاح المبهر للقوات الروسية في صد الهجوم الأوكراني المضاد  الكبير المدعوم بدبابات ليوبارد الالمانية و مدرعات برادلي الأمريكية  ، والذين تدمروا في وجه الدفاعات الروسية .

و لكن سرعان ما انتهى هذا التمرد الذي وصفه البعض بـ المسرحية الهزلية ، وذلك بعد وساطة رئيس روسيا البيضاء اولكسندر لوكاشينكو الذي عرض إنسحاب قوات فاجنر من روسيا  نحو بيلاروسيا و ان تسقط كل التهم الموجهة لبريجوجين.


ثم خرج بوتين في خطاب   قال فيه انه كان مستعد لسحق الإنقلاببين ،كما لم يفوت فرصة لشكر فيه المواطنين الروس من  ضباط ومقاتلي فاجنر الذين حاربوا في أوكرانيا و ساهموا في  تحرير أراضي روسيا والذي تم استغلالهم من قوى الشر  على حد قوله ، كما دعاهم لإلقاء السلاح والانضمام للقوات المسلحة الروسية .


 ولكن  هل كان من الممكن  أن تشكل قوات فاجنر تهديداً حقيقياً لموسكو  من الأساس؟


 تبلغ المسافة بين روستوف و العاصمة موسكو بحسب  خرائط جوجل حوالي ٢١٣٨ كم  ، و إن محاولة إجتياز كل تلك المسافة  مع تأمين خطوط الإمداد و جوانب الطريق  باتجاه موسكو ،أمر شبه  مستحيل حتى لو حشدت فاجنر  ٥٠٠٠٠ الجندي خاصته  ،و بالأخص مع حاجتها  لتحريك آلياتها الثقيل و دباباتها و تأمين نقاط إمدادها و حركتها بعيدا عن أعين الطيران الروسي  . فإن محاولة السيطرة على الحكم في موسكو ، يتطلب السيطرة على مساحة هائلة و كمية أكبر بكثير من الجند و العتاد و السلاح ، أكبر من قدرة فاجنر بكثير  .

لم تكن ردة فعل الحكومة في موسكو  بهذه القوة فلم تحشد أي قوات ولم تعلن هجوما شاملا على فاجنر  لإستعادة روستوف و لم تضربها بالطيران ، فلم تنشر سوى بعض المقاطع لحفر خنادق للدفاعات على طريق موسكو السريع  ، و مشهد قصف بمروحية.و لم تعلق القيادة الروسية باستثناء بوتين على تحرك فاجنر  .  و إن ما يثير  السخرية هو أن  أكثر المقاطع المنتشرة كانت لقوات فاجنر و دباباتها و تمركز جنودها في عرض  قواتها .

رغم ذلك وصلت قوات فاجنر لمسافة تقارب الـ ٢٠٠ كم من العاصمة موسكو، حيث قطعت ما يقارب ٨٠٠كم من  دون مقاومة ، حيث زحف نحو العاصمة ب ٥٠٠٠ جندي بسلاحهم الثقيل ، ثم انسحبوا بسرعة  بعد وساطة لوكاشينكو . 


لكن ما كان هدف بريغوجين من التمرد المسلح؟

صرح بريغوجين أن هدف لم و لن يكون الإنقلاب ضد السلطة الروسيا الشرعية  أو بوتين ،  بل أنه يريد أن ينقذ روسية من الفاسدين و البيروقراطيين على حد تعبيره ، أو بعبارة أخرى  القيادة العسكرية و حاشية بوتين و على رأسهم وزير الدفاع شويغو ، متهماً القيادة الروسية  بخداع بوتين بما يتعلق بالحرب مع أوكرانيا ، و أن يمنع حل فاجنر . و لكن الأهم من ذلك هو حديثه  عن الحرب الروسية في أوكرانيا وتشكيكه في جدواها والهدف منها ، حيث اعتبر أن الحرب أدت إلى نتائج عكسية على روسيا ، حيث زادت من قوة أوكرانيا العسكرية  لا نزعت سلاحها . كما هاجم طبقة الأغنياء الروس من حاشية السلطة والذي يعتبر هو نفسه منهم .

فالهدف من التحركات العسكرية كان بهدف لفت الانتباه للأمر أمام بوتين بل و أمام العالم ،  ولكن  عندما أدرك  أن الدماء الروسية ستراق قرر أن ينسحب على حد قوله  .كما واعتذر لضربة بعض المروحيات العسكرية الروسية التي هاجمت جنوده. 

ولكن هل كل هذه الشعارات الرنانة النبيلة هي السبب  الحقيقي لانقلاب فاجنر ، أم هل كان بريغوجين يرى في نفسه لينين الجديد ، فكان له طموح للسلطة ،عبر قيام ثورة مسلحة  معتمدا على قوة وخبرة عناصر ميليشياته  أي فاغنر وضعف وتخبط القيادة الروسية  و تهالك الجيش و إنشغاله في حرب أوكرانيا ، بذكريات عام ١٩١٦ و الثورة البلشفية. لكنه قرر التراجع عندما لم يلقي اي تأييد شعبي من الشارع الروسي   . 

 أم أن بريغوجين وقع ضحية لمن وعده بالسلطة،  في مقابل الإطاحة الجبهة الداخلية الروسية اي أنه تم الإغرار به من قبل الاستخبارات الغربية ، عبر  وعده بمنصب الرئاسة والسلطة مقابل إسقاط بوتين ونظامه ولو بالطرق العسكرية . و وان استراتيجية كهذه ليست بغريبة، عن الغرب واستخباراته لطالما استعملت الانقلابات العسكرية،  والتمردات المسلحة وحتى التي تقودها  شخصيات طامحة للسلطة من داخل النظام  نفسه ، وذلك لإسقاط أنظمة معادية للمد الغربي الأمريكي . كما تم تطبيق هذه الطريقة  في الكثير من المناطق حول العالم ، من  القرن الماضى وحتى اليوم فهل كان بريغوجين أحد قطاع الغربي في تطبيق استراتيجيته هذه،  والذي عندما رأى عدم قدرته على مواجهة روسيا رضخ وانسحب .


إن تمرد عسكريا  كهذا لم يستمر أكثر من بضع ساعات ليس بأمر طبيعي ، حيث ذهب البعض إلى إعتبار الإنقلاب مسرحية هزلية بين بوتين و بريغوجين،  إذا ماذا استفاد بوتين إذا  من  إنقلاب فاجنر المزعوم؟


بعيدا عن فكرة كون الإنقلاب المزعوم تمثيلية بين بوتين و بريجوجين ، فإن بوتين قد أعلن و بشكل خفي حالة الحرب في البلاد. فمثلا أمر بوتين القوات المسلحة بالجهوزية المطلقة دون تحريك القوات ، كما أعلن الأحكام العرفية  و رفع حالة التأهب لأقصى درجاتها .

و لكن الأهم من ذالك كله هو ضمان تأيد الجبهة الداخلية الكامل لبوتين،  فالجيش والمخابرات حافظوا على 

 وولاءهم،   كما و صرحت الكنيسة بتأييد بوتين ، وتعالت أصوات التأيد الكامل لبوتين من وحكام المقاطعات و رؤساء الجمهوريات  داخل الإتحاد الروسي ،  وعلى رأسهم  رمضان قديروف رئيس جمهورية الشيشان الذي وصل به الأمر لإرسال بعض قواته لقمع تمرد فاجنر . كما ظهر جلياً التأيد الشعبي لبوتين فقام المواطنين العزل في روستوف التي احتلها مسلحو فاجنر بسب والصراخ على الجنود  المدججين بالسلاح .

كما أن فاجنر تحظى بأهمية كبيرة بالنسبة لروسية ، فهي قوتها القذرة  التي تقوم بأعمال لا يمكن ان يقوم بها الجيش ، كما أن لها الكثير من الإنتشار العسكري في العديد من دول العالم لتأمين البعد الإستراتيجي الروسي  في سوريا و ليبيا و العديد من الدول الأفريقية حيث تنتشر فاجنر فيها لحفظ مصالح موسكو هناك. 

كما هل يمكننا ان نجزم بشكل قطعي  أن بريغوجين  هو القائد الفعلي المطلق الصلاحية لشركة عسكرية خاصة ، في دولة من أكثر دول العالم إستخبارياةً . هل تركت السلطات في موسكو فرقة من المرتزقة و المجرمين قي يدي رجل أعمال مدني و مجرم سابق ، دون أن تترك في قيادتها عناصر تابعة لها في أقل تقدير .  و ذالك دون ذكر الدور الاساسي لجهاز الاستخبارات الروسي في تأسيس فاجنر من الأساس ، و ذالك قبل وصول بريجوجين إلى الواجهة .


في المحصلة يمكننا القول أن هناك كمية لا بأس بها من الأسئلة المطروح و التي لا إجابة واضحة عليه بما يتعلق بالانقلاب العسكري المزعوم ربما سيجيبنا المستقبل عن بعضها . وبعيدا عن التفسيرات و الدوافع المتضاربة  فإن الإنقلاب انتهى بشكل سريع لم يحدث أي ضررٍ واضح  الروس ،و  ان بوتين  ظهر بمظهر المنتصر الذي نجح في التغلب على  أزمات الداخل   و أمٓن الجبهة الداخلية حظيت بتأييد الشعب و الجيش و الكنيسة  .

Comments

Popular posts from this blog

الذكاء الصناعي و مأزق الإنسان

أصول التوحش الامبريالية الغربية و أولادها