بين الملاعب و ساحات الصراع العلاقة بين الرياضة و السياسة
في الأول من نيسان أبريل من هذا العام ٢٠٢٢، وفي العاصمة القطرية الدوحة ، سحبت قرعة مجموعات كأس العالم ، بعيدا ً عن المواجهات النارية و القمم الكروية المنتظرة ، يتصدر المشهد في المجموعة الثانية و التي تغلب عليها رائحة السياسة لا الريضة ، المجموعة التي تضم إيران و الأنجلو ساكسون المتمثلين بـعدوتها اللدود الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وويلز . فنحن على موعد مع كلاسيكو ناري من نوع مميز كلاسيكو السياسة الدولية ، فيعود الحديث عن العلاقة بين الرياضة والسياسة للواجهة. خاصة في ضوء الأحداث الحالية حول العالم، وهل ستصلح الرياضة ما تفسده السياسة ، أم أن السياسة مفسدة تفسد كل شيء؟ .
الرياضة أداة بيد الأنظمة السياسية :
يعود تاريخ العلاقة بين الرياضة والسلطة السياسية تعود غابر الأزمان حيث نشأت في أثينا في اليونان القديمة في معبد زيوس الالعاب الاولمبية ، والتي تعد كأول حدث رياضي ضخم في التاريخ. كان الرياضيون من كل أنحاء اليونان القديمة يجتمعون على الممارسة في تلك الألعاب بديلا عن النزاعات العسكرية بين المدن اليونانية، وخلق فترة سلام بينها ، و فرصة لتجمع وإنشاء التحالفات أيضاً .
وفي العصر الحديث، وتحديدا في ثلاثينيات القرن الماضي ، و مع صعود الأنظمة الشمولية المتطرفة في أوروبا ك الفاشية في إيطاليا و إسبانيا و النازية في ألمانيا . سعت تلك الأنظمة لاستغلال الأحداث الرياضية الكبيرة بهدف تحسين صورة أنظمتها المستبدة ، بإستغلال التوجه العالمي نحو تلك الأحداث الكبيرة و تجمع الجماهير الغفيرة ، والتي تتجه آلة الدعاية و البروباغندا نحوها ، بهدف غسل و تلميع صورة النظام السياسي أمام متابعي تلك الأحداث الرياضية .و هكذا يمكن أن تشكل الأحداث الرياضية إضافة للقوة الناعمة للبلد.
ففي العام 1934 استضافت إيطاليا بقيادة الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني كأس العالم ، و هنا سعى موسوليني لتحسين صورة نظامه المستضيف عبر الدعاية المركزة فمثلا افتتح اللاعبون الايطاليون المباريات بأداء التحية الفاشية وهم يرتدون القمصان السوداء رمز الحزب الفاشي . لم يكتفي موسوليني بذلك فحسب بل سعى لتحسين صورته أمام شعبه و خلق حالة جماهيرية حوله عبر حصد اللقب . و هذا ما حصل فعلا بفوز المنتخب الإيطالي على نظيره التشيكوسلوفاكي في النهائي حضره موسوليني و كبار جنرالاته و أركان دولته . لكن الفوز لم يكن نظيفا بل عبر إستغلال التحكيم و تهديد موسوليني للاعبه بالهلاك إن لم يحصدوا اللقب .
اللاعبون الإيطاليون يؤدون التحية الفاشية
وعلى خطى موسوليني في إيطاليا مشى حلفاءه من النازيين الألمان بقيادة أدولف هتلر، بإستخدام الرياضة كجزء من البروباغندا و الدعاية الألمانية . في العام 1936 استضافة ألمانية دورة الألعاب الأولمبية الصيفية ، و التي افتتاحها أدولف هتلر بنفسه أمام مئة ألف متفرج في استاد برلين الأولمبي الذي شيد خصيصا لهذه البطولة . وكانت بطولة إستثنائية من حيث التنظيم و التجهيز لاقت استحسان الجماهير و اللاعبين، والتي ظهرت خلالها ألمانيا كدولة مسالمة و رمزٍ للتحضر في وقتها . و كل ذلك بهدف تبديد صورة ألمانيا المقيتة بعد الحرب العالمية الأولى وصورة هتلر الشخصية بعد صعود الحزب النازي للسلطة و إظهار مدى قوة و تفوق العرق الآري الجرماني . كما كان من المتوقع أن تقام النسخة الرابعة من المونديال في ألمانيا النازية عام 1942 لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية أجبرت البطولة العالمية على التوقف حتى 1950 ، ويذكر أنه تم إستبعاد ألمانيا واليابان من مونديال البرازيل عام 1954 لما فعلتاه في الحرب العالميه الثانيه .
هتلر في حفل افتتاح الأولمبياد
الرياضة في قلب الصراعات السياسية العالميه:
بعد حديثنا عن كيف يمكن أن تستغل سلطة ما الأحداث الرياضية في صالحها ، سوف نتطرق للحديث عن كيف تنعكس بعض الصراعات الدولية على واقع الرياضة . وهنا سنتطرق للحديث عن حالتين شهيرتين لنرى كيف تنعكس الصراعات الدولية داخل الملاعب .
في العام 1982 وقعت الحرب المعروفة بحرب الفوكلاند على جزر الفوكلاند بين المملكة المتحدة من جهة والأرجنتين من جهة أخرى ، والتي حاول خلالها الارجنتينيون استعادة الجزر من البريطانيين لكنهم فشلوا في النهاية واستسلمت القوات الأرجنتينية للقوات البريطانية ، لكن ومع انتهاء المعارك في الميدان لم تنتهي لم تنتهي الحرب.
و لكن سرعان ما تقابل المنتخبان الأرجنتيني والإنجليزي و ذلك في كأس العالم 1986 و تحديداً في الدوري ربع النهائي ، فكانت تلك المباراة بمثابة جولة جديدة من الحرب بين البلدين لم تكن مباراة كرة قدم فقط ، بل فرصةً لرد الاعتبار ، حيث كان انتصار الأرجنتين فيها بمثابة انتصار سياسي وعسكري كبير .و انتصرت الأرجنتين بالفعل ، بهدفي لاعبها الأسطوري دييغو أرماندو مارادونا في مرمى الحارس الإنجليزي بيتر شيلتون ، ومنهم هدفه الشهير الخبيث بيده و الذي عرف لاحق "بيد الرب" و هدفه الآخر الأشهر والأجمل في تاريخ كأس العالم حيث راوغ الفريق الخصم كاملا. وصرح مردونا لاحقا
هدف يدي الرب لمارادونا
وفي حادثة مماثلة أخرى في كأس العالم في فرنسا 1998 ،حيث إلتقى المنتخبان اللدودان في السياسة لا الرياضة المنتخب الإيراني والمنتخب الامريكي، حيث كانت مباراتهما تلك حدثا ترقبه العالم كله وقتها حيث أوقعتهم القرعة في نفس المجموعة كما حالهما في المونديال عام 2022 . في ام المباريات الكلاسيكو السياسي مباراة المنتخبين المرتقبة، المباراة المشحونة بضغوطات الصراع السياسي الطويل بين البلدين ، حققت ايران اول انتصار لها في كأس العالم أمام الغريم الأزلي في السياسية الولايات المتحدة الأمريكية بشكل دراماتيكي.
و من هنا يمكن أن نرى كيف أن مجموعة من الأحداث السياسية قد شحنت معنوياتي لاعبي أحد الفرق على الآخر، بل و أعطتهم دوافع أكبر لتحقيق النصر ، وحولت المباراة من حدث رياضي ترفيهي إلى استمرارية صراع سياسي في الملاعب. إن الرياضيين بشر في النهاية لهم ميولهم السياسية والايديولوجيا وانتمائهم لوطنهم ، و إن هذه الحالات ليست غريبة أو شاذة بالضرورة بل هي ردات فعل طبيعية تعطي المباريات أبعدا ً أخرى .
الملاعب منابر الرياضيين :
ان الاحداث الرياضية وكرة القدم بشكل خاص هي أحداث جماهيرية تسرق عقول و مسامع الجماهير الغفيرة من المشاهدين حول العالم، فتكون في النهاية خير منصة لإطلاق أي شعار أو موقف أو رأي تجاه حادثة ما . و إن الرياضيين بما يملكون من شعبية و شهرة يتحولون لرموز ومؤثرين في الناس و المجتمع ، يكون كلامهم و تصرفهم ذا تأثيرٍ كبير في الناس و المجتمع قد يهز دولا و يوقف حروبا . ولطالما حاولت الفيفا منع هذه الظواهر التي لا تمت الى الرياضية بصلة من الحدوث، عبر فرض الغرامات ومعاقبة اللاعبين الذين يقومون بتلك التصرفات بغض النظر عن أحقيتها قضيتهم من عدمها .
و أول ما يتبادر إلى أذهاننا كعرب ، النجم المصري الكبير محمد أبوتريكة ، الذي احتفل بهدفه أمام السودان في كاس الامم الافريقية عام 2008 تضامناً مع قطاع غزة الذي كان يتعرض لعدوان غاشم من العدو الإسرائيلي وقتها ، حيث لم يوقع وقتها الاتحاد الافريقي لكرة القدم أي عقوبة تجاه أبو تريكة وقتها، لكنه تحصل على بطاقة صفراء وقتها لخلطه السياسة بالرياضة ،الأمر الذي كان يحرمه الفيفا .
إحتفال أبو تريكة تعاطفاً مع غزة
في ١٩ أيلول من العام ٢٠٠٢ اندلعت حرب أهلية دامية في ذلك البلد الأفريقي المعروف بساحل العاج ، حيث قسمت الحرب البلد إلى جنوب تحكمه الحكومة و شمال تحكمه " قوات ساحل العاج الجديدة " الحركة المسلحة المتمردة .انتهت جولات القتال الدموية في العام ٢٠٠٤ ، لكن التوترات والمشاحنات استمرت في تهديد مستقبل البلاد . و على النقيض كان منتخب ساحل العاج مدججا نجوم لمعوا في الملاعب الأوروبية كمهاجم تشيلسي المرعب ديديه دروجبا و كولو توريه في آرسنال و الموهبة الصاعدة وقتها يايا توريه غيرهم الكثير . وتحت قيادة دروجبا بلغ منتخب ساحل العاج نهائيات كأس العالم ٢٠٠٦ فعمت الإحتفالات البلاد كلها بشمالها وجنوبها ، وعندها أعلن دروجبا المواطنين العاجيين لإلقاء السلاح و التعايش السلمي معا ، لاقت نداءات دروجبا صدا واسعا في بلاده، دفعهم مع الوقت لتخفيف الإحتقان وتوقيع إتفاق وقف إطلاق نار في النهاية .
وفي القارة الأوروبية المملوء تاريخها بالصراعات السياسية ، و في إحدى أكثر مناطقها إشتعالا في أواخر القرن العشرين ألا وهي البلقان و في التحديد يوغوسلافيا السابقة . ففي العام 1990 وفي خضم مباراة جمعت بين فريقي دينامو زغرب "الكرواتي حاليا " و فريق ريد ستار بلجراد "الصربي حاليا" ، حيث وقعت واحدة أشنع أحداث الشغب في الملاعب ، و التي كانت بمثابة شرارة البداية للحرب الأهلية اليوغسلافية الدموية. بدأت الأحداث بتهجم نجم إيسي ميلان السابق و الفائز بدوري لأبطال معه زفونيمير بوبان الكرواتي الأصل على أحد عناصر الشرطة وضربه، ثم ما لبثت أن أشتبكت الجماهير الناديين ببعضها . تمت معاقبة بوبان بمنعه من اللاعب لستة شهور ضمنها كأس العالم 1990 ،لكن رغم ذلك صار بوبان بطلا يوميا ً للكروات ، الذين عانوا كغيرهم من القوميات الأخرى داخل يوغوسلافيا من ظلم الصرب . و قد صرح بوبان لاحقا :
من أحداث الشغب بين دينامو زغرب و ريد ستار بلجراد
وفي واقعة اخرى و ليست بعيدة عن سابقته ، و ربما تتكرر في كأس العالم الحالي بسبب تواجد المنتخبين في ذات المجموعة، حيف في كأس العالم في روسيا 2018 في المباراة بين منتخبي سويسرا وصربيا حيث احتفل اللاعبان السويسريان شيردان شاكيري و جرانيت تشاكا هناك بهدف في شباك صربيا ، بشعار النسر المزدوج الرأس الألباني رمز القومية الألبانية، في اشارة الى الصراع بين الصرب والألبان في حرب كوسوفو التي ينحدر منها اللاعبان ، و اضطهاد الصرب الاقلية الألبانية.
إحتفال النسر المزدوج الرأس لشكيري و تشاكا
آثار ذلك الاحتفال موجة من الغضب في صربيا تجاه اللاعبين، خاصة بعد امتداح رئيس ألبانيا حينها لاحتفالهم واعتبر البعض الآخر أن احتفالهم ذلك إهانة سويسرا البلد الذي يلعبون بقميصه و تحت شعاره . فتح الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا تحقيقا في تلك الواقعة وفرض عقوبات على اللاعبين .
إن الملاعب و خاصة في الأحداث الرياضية الكبرى ، و بسبب جماهيريتها تصبح خير منبر يستغله اللاعبون في إبراز مواقفهم و التعبير عن آرائهم و معتقداتهم و إطلاق صيحاتهم في وجه الظلم و الإستبداد كما فعل بوبان و أبوتريكة أو إيقاف حرب كما فعل دروجبا،رغم رفض الفيفا للكل ذلك لأنه ربط للرياضة بالسياسة . كما إن الرياضة منبر للدفاع عن القضايا الإنسانية الحقة كالعنصرية مثلاً .
الرياضة أداة للضغط بيد السلطة :
في شباط من العام الجاري ٢٠٢٢ اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية بعد هجوم الجيش الروسي على أوكرانيا ، و انهالت العقوبات الغربية كالمطر على روسيا بشتى قطاعاتها و مكوناتها ، ولم يسلم القطاع الرياضي الروسي من العقوبات، فقامت كل من الفيفا و اليويفا الذين طالما صدحوا بوجوب فصل الرياضة و السياسة عن بعضهما بإقصاء منتخب روسيا من تصفيات المؤهلة كأس العالم ثم منع الفرق الروسية من المشاركة في البطولات الأوروبية . ولم يسلم نادي تشيلسي الإنجليزي المملوك سابقا من رجل الأعمال اليهودي الروسي رومان أبراموفيتش المقرب من الكرملين ، الذي أجبروه على بيع النادي و التخلي عنه .
الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش
بالإضافة لما سبق ذكره صدحت ملاعب أوروبا بشعارات دعم أوكرانيا و الهتافات المعادية لروسيا , ليس كحالة فردية للاعب أو بعض الجماهير بل لحالة جماهيرية عملاقة ، فقد تلقى اللاعبون الأوكرانيون كماً هائلاً من التعاطف كروسلان مالينوسكي لاعب أتلانتا الإيطالي ، ألكسندر زيتشينكو لاعب السيتي سابقا و أرسنال الإنجليزى حاليا ، و اللذان اشتهرا بتصريحاتهم المعادية لروسيا و الداعمة لبلادهم ، ليس هم فقط بل عدد ضخم من اللاعبين و الجماهير و المدربين عبرو عن أرائهم السياسية بكل حرية بمباركة الاتحاد الدولي والقاري لكرة القدم . و كما ذكرنا من قبل إن ملاعب كرة القدم أفضل منصات يمكن أن تنشر أي فكرة بشكل سريع . لكن السؤال هنا لماذا ؟ لماذا يتم إستغلال منصات كرة قدم لدعم أوكرانيا - وهي قضية محقة في هذا الإطار - و مهاجمة روسيا و رئيسها بوتين، بالمقابل لم يكن هناك أي حركة دعم لأي أزمة سياسية سابقة و أي تعاطف إنساني مع أي حرب إلا على الصعيد الفردي، كدعم القضية الفلسطينية . السبب كان لا لخلط السياسة بالرياضة ، فلماذا هذه الازدواجية في المعايير ، فمرة تكون كرة القدم منصة للإشاعة السلام والعدالة ، ومرات أخرى نعود للشعارات لا لخلط السياسة و الرياضة .
لافتة لدعم اللاعب الأوكراني ألكسندر زيتشينكو
لاعبو ليستر سيتي وليدز يونايتد الإنجليزيين يرفعون لافتة دعم أوكرانيا
من هنا يمكن أن نرى أنا فصل الرياضة عن السياسة بشكل مطلق، فإن اللاعبين بشر أي مزيج معقد من الأفكار و المشاعر و الأهداف ، بل إن عدد من الرياضيين يظهر بشكل واضح عليهم تأثير إيديولوجيتهم و انتماءاتهم على تصرفاتهم. إن اللاعبين بما يملكون من قدرة تأثير وجمهور و قوة ناعمة ، فيكون لكلامهم و أفعالهم تأثير واسع النطاق و على شرائح كثيرة وكبيرة حول العالم . إن الرياضة بجماهيريتها وقدرة تأثيرها تكون خير منبر لإبراز أي معتقد أو نشر أي فكرة بسرعة فائقة حول العالم ، أو حتى يمكن أن تكون أفضل مخدر في أسوء الأحوال .
المصادر :
https://rattibha.com/thread/1259120210768007169
https://www.ushmm.org/exhibition/olympics/?content=aftermath&lang=ar
https://www.btolat.com/news/118657
https://www.premierleague.com/news/2513934
https://www.the42.ie/ukraine-zinchenko-man-city-fa-cup-5698246-Mar2022/
https://www.bbc.com/arabic/sports-52109691.amp
https://www.google.com/amp/s/www.bbc.com/arabic/sports-44587562.amp
https://mobile.btolat.com/amp/news/118657
Comments
Post a Comment